"كلما ارتقى العاقل زاد صدقا"
هذا ما قاله لنا السيد الكبير والفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه "جمهورية أفلاطون". بعد ألفين وخمسمائة سنة اعتذر منك يا سيّدي، وأخجل أن أقول لك أننا في زمن كلما ارتقى العاقل فيه زاد كذبا، وزاد تملقا ورياء للناس. نحن يا سيدي الفيلسوف نعيش في عصر الظلمة، عصر النفاق، عصر النميمة، قالوا في الماضي: لا يوجد دخان بلا نار! واليوم أقول لك: إننا نصنع الدخان من لا شيء. نحن نختلقه، ونوهم أنفسنا أننا نراه. النميمة عندنا، فاكهة المجالس، لو جُمعت الأكاذيب والإشاعات عندنا، تستطيع شهرزاد أن تقصها على الملك شهريار ألف ليلة أخرى. الفرق أن شهرزاد كانت تقص القصص المختلقة لتلهي بها الملك شهريار حتى ينسى حكاية قتلها، أما عندنا تروى القصص والأكاذيب دون التأكد من صحتها انتقاما وكرها وتعديا على حرمة الآخرين. لقد قال الإمام الشافعي: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس السن
نحن في زمن يا سيدي، نكذب ونتملق لنرضي أسيادنا، لنحظى بترقية ما أو وظيفة ما. أو كي يكفوا أذيتهم وشرهم عنا. لأن الشر يعشش في النفوس ويتمكن بها ويسيطر عليها كليا. الغيرة تفتك في الأكباد، والمحبة انمحت من القلوب.
يقولون: عليك أن تُسمِع الناس ما يحبون سماعه، لأنك إن لم تفعل، يبغضوك. قلت: خير لي أن يبغضني الكاذبون من أن يغضب علي ربي. وهل تكون خشيتي من بشر مثلي كخشيتي من الله؟ إذا توجب على كل منا إسماع الآخرين ما يودون سماعه، سيمحى الصدق من قاموس البشرية، ليحل محله الكذب وإذا كان في الكذب مخرجا للنجاة، فإن الصدق أنجى. كما قيل " ليس عقاب الكاذب في أن أحدا لا يصدقه، وإنما حين يصبح عاجزا عن تصديق نفسه".
لماذا تستعمل الأكاذيب أيها الإنسان والصدق موجود؟ ألا تعلم انك حين تكذب، عليك أن تدخل في عالم من الأكاذيب كي تغطي على كذبك السابق؟ ألا تعلم بان الصدق هو الطريق الأقصر؟ فمهما طال الكذب سيظل حبله قصير. ومهما طال الباطل سيأتي الحق ليزهقه.
ألا تعلم أيها الإنسان أنه في السماء رب رقيب حاضر يعلم خفايا نفسك حق المعرفة؟ إن استطعت خداع الناس فأنت لا تستطيع خداعه ولا بد أن تأتي الساعة يوما ما ليرد لك الصاع صاعين. وإن أطاعتك نفسك أيها الإنسان على ظلم احد "تذكر بان الله هو الأقدر".
روي انه جيء بأربع نساء إلى الملك ليحكم في أخطائهن. قالت الأولى: أنا قتلت. قالت الثانية: لقد سرقت. قالت الثالثة: لقد عملت الفحشاء. فعفا عنهن الملك. أما الرابعة فقالت: أنا مشكلتي أنني أكذب باستمرار. فقال الملك : أحرقوها، وارموا رمادها في البحر، لان من يكذب يعمل كل شيء وينكر فعلته.
متى يكون الكذب نافعا؟ إنه جائز الاستعمال عندما تريد به رفع الأذية عن احدهم. أو ردع النميمة. أو تحويل الكلام الذي يؤدي إلى خلاف، لكلام فيه الخير والمصلحة العامة. المصيبة الكبرى أن هذا النوع من الكذب لا يستعمله الناس، لأنه ينم عن صفات حميدة لا تتلائم مع روح هذا العصر. في الماضي كنت تشير إلى عدد قليل من الأشرار في هذا المجتمع، الذين ذهب الحياء من أعينهم، وقلت المروءة عندهم، أما اليوم فأنت تبحث عن الأخيار كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش. الأخيار، أقصد بهم الصادقين، ذوي النفوس الكريمة، محبي الخير وفاعليه، الذين يكفّون أذيتهم عن الناس ويذودون عن أخوانهم. لكن أين هؤلاء؟
قراءة ممتعة ...